فصل: تفسير الآيات (125- 126):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (125- 126):

{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)}
قلت: من قرأ {حرَجًا}؛ بالفتح، فهو مصدر وُصف به للمبالغة، ومن قرأ بالكسر، فوصف، أي: شديد الضيق، ومن قرأ {يَصَّعَّد}؛ بالشد والقصر، فأصله: يتصعد، أدغم التاء في الصاد، ومن قرأ: {يصّاعد}؛ فأصله: يتصاعد، فأدغم أيضًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فمن يُرد الله أن يهديه} أي: يعرِّفه طريق الحق ويوفقه للإيمان {يشرح صدرَه} أي: يوسعه {للإسلام}، فيتسع له، ويقبله، ويغتبط به، ويبتهج، فرحًا وسرورًا. والشرح: كناية عن جعل النفس قابلة للحق، مهيأة لحلوله فيها، مصفاة عما يمنعها منه، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم، حين سُئل عنه، فقال: «نُورٌ يقذفه الله في قَلبِ المؤمن، فينشرح له وينفسح» قالوا: هل لذلك أمارة يعرف بها؟ قال «نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول».
ثم ذكر ضدَّه، فقال: {ومن يُرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا}؛ شديد الضيق، بحيث ينبو عن قبول الحق، فلا يدخله الإيمان، ولا ينشرح صدره له، بل يفر منه، ويثقل عليه {كأنما يصَّعَّد في السماء} أي: يتكلف الصعود فيه. شَبَّههُ على وجه المبالغة بمن يُحاول ما لا يقدر عليه، فإن صعود السماء غاية فيما يبعد عن الاستطاعة، تنبيهًا على أن الإيمان تَمَنَّع عليه كما يمتنع عليه الصعود إلى السماء، {كذلك} أي: كما يضيق صدر الكافر ويبعد قلبه عن الحق، {يجعل الله الرجس} أي: العذاب والخذلان، {على الذين لا يؤمنون}، ووضع الظاهر موضع المضمر للتعليل.
{وهذا} البيان الذي جاء به القرآن، أو ما سبق من التوفيق والخذلان، {صراط ربك} أي: الطريق الذي ارتضاه، إن قلنا: الإشارة للبيان، أو عادته وطريقه الذي اقتضته حكمته، إن قلنا ما سبق من التوفيق والخذلان، حال كونه {مستقيمًا} لا عوج فيه، أو عادلاً مطردًا لا جور فيه، {قد فصَّلنا الآيات} أي: بينَّاها {لقوم يذكَّرون} فيعلمون أن الفاعل هو الله وحده، وأن كل ما يحدث من خير وشر، أو إيمان وكفر، بقضائه وخلقه، فإنه عالم بأفعال العباد، حكيم عادل فيما يفعل بهم من تقريب أو إبعاد.
الإشارة: فمن يُرد الله أن يهديه لسر الخصوصية ونور الولاية يشرح صدره للدخول في طريقها، ويوفقه لبذل نفسه وروحه في تحصيلها، ويصبَّرُه على حمل لأوائها، وينهضه إلى السير في ميدانها، بعد أن يسقطه على شيخ كامل عارف بطريقها، فيحققه بخصوصيته، ويطلعه على سر ولايته، حتى يُلقى القياد إليه بكليته، فلا يَزَالُ يُسَايره حتى يقول له: ها أنت وربك. ومن يريد أن يضله عنها يجعل صدره ضيقًا عن قبولها، حرجًا عن الدخول فيها، حتى يثقل عليه حمل أعبائها، أو ينكر وجود أهلها، كذلك يجعل الله رجس حجابه على الذين لا يؤمنون بطريق الخصوص، فإنه طريق مستقيم يُوصل إلى حضرة النعيم في الدنيا والآخرة. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (127):

{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {لهم دار السلام} التي هي الجنة. والسلام اسم الحق تعالى، وأضافها إلى نفسه تعظيمًا لها، أو دار السلامة من المكاره، أو دار التحية؛ {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [إبراهيم: 23؛ يونس: 10]، {عند ربهم} ذخيرة لهم عنده حين يقدمون عليه، لا يعلم كنهها غيره، أو في ضمانه وكفالته، {وهو وليهمُ} أي: مولاهم وناصرهم في الدارين، {بما كانوا يعملون} أي: بسبب أعمالهم، أي: تولاهم بسبب أعمالهم الصالحة، فيحفظهم في الدنيا، هم وذريتهم، ويحفظهم في الآخرة كذلك.
الإشارة: من هداه الله لطريق الخصوصية، واستعمله في الوصول إليها، ووصله إلى من يسيره إليها، فقد دخل دار السلام قبل موته، فللَّه جنتان؛ جنة المعارف وجنة الزخارف، من دخل جنة المعارف لم يشتق إلى جنة الزخارف، لأن الله تولاه وأغناه عما سواه.

.تفسير الآيات (128- 129):

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)}
قلت: {خالدين}: حال مقدَّرة من الكاف، والعامل فيه: {مثواكم}، إن جعل مصدرًا، أو معنى الإضافة، إن جعل مكانًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر {يوم نحشرهم} أي: الثقلين، {جميعًا} ونقول: {يا معشر الجن} أي: الشياطين {قد استكثرتم من الإنس} أي: من إغوائهم وإضلالهم، أو استكثرتم منهم بأن جعلتموهم في أتباعكم، فحُشروا معكم، {وقال أولياؤهم من الإنس} الذين أطاعوهم في الكفر: {ربنا استمتع بعضنا ببعض} أي: انتفع الإنس بالجن، بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها، وانتفع الجن بالإنس بأن أطاعوهم وحَصَّلوا مرادهم: وقيل: استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا يعوذُون بهم في المفارز وعند المخاوف، كان الرجل إذا نزل واديًا يقول: أعوذ بصاحب هذا الواد، يعني كبير الجن، واستمتاعهم بالإنس: اعترافهم بأنهم يقدرون على إجارتهم، {وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} وهو الموت أو البعث والحشر، وهو اعترافٌ بما فعلوا من طاعة الشياطين واتباع الهوى، وتكذيب البعث، وتحسرٌ على حالهم، وإظهار للأستكانة والضعف. أقروا بذنبهم لعله ينفعهم.
{قال النار مثواكم}: منزلكم، {خالدين فيها إلا ما شاء الله}؛ إلا أوقات، ينتقلون فيها من النار إلى الزمهرير، وقيل: ليس المراد بالاستثناء هنا الإخراج، وإنما هو على وجه الآدب مع الله وإسناد الأمور إليه. وسيأتي في الإشارة تكميله إن شاء الله، {إن ربك حكيم} في أفعاله، {عليم} بأعمال الثقلين.
{وكذلك} أي: كما ولينا الشياطين على الكفرة، {نُوَلِّي بعض الظالمين بعضًا} أي: نَكَّل بعضهم إلى بعض، أو نجعل بعضًا يتولى بعض فيقويهم، أو: أولياءهم وقرناءهم في العذاب، كما كانوا قرناء في الدنيا، وذلك التولي والتسليط {بما كانوا يكسبون} من الكفر والمعاصي.
الإشارة: ليست الآية خاصة بالكفار، بل كان عَوَّق الناسَ عن طريق الخصوص، واستكثر من العموم؛ بأن أبقاهم في حزبه، يقال له: يا معشر أهل الرياسة قد استكثرتم من العموم، فيقول أهل اليمين من العموم: ربنا استمتع بعضنا ببعض فتبعناهم في الوقوف مع الحظوظ والعوائد، وتمتعوا بتكثير سوادهم بنا وتنعيش رياستهم، مع ما يلحقهم من الارتفاق من قِبلنا، فيقول الحق تعالى: نار القطيعة والحجاب مثواكم خالدين فيها، إلا وقت الرؤية مع عوام الخلق، وهذه عادته تعالى: يولي بعض الغافلين بعضًا بسبب غفلتهم.
وفي قوله تعالى: {إلا ما شاء الله} إرشاد إلى استعمال الأدب، وردُ الأمور كلها إلى رب الأرباب، وعدم التحكيم على غيب مشيئته وعلمه، وقوفًا مع ظاهر الوعد أو الوعيد، فالأكابر لا يقفون مع وعد ولا وعيد، كقول عيسى عليه السلام: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المَائدة: 118]، وكقوله إبراهيم عليه السلام: {وَلآ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلآَّ أَن يَشَآءَ رَبِي شَيْئًا} [الأنعَام: 80] الآية، وكقوله: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، وكقول شعيب عليه السلام: {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلآَّ أَن يَشَآءَ اللهُ رَبُّنَا} [الأعرَاف: 89]، وكاستغفار نبينا صلى الله عليه وسلم للمنافقين قبل نزول النهي، وبعد نزوله، {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً...} [التّوبَة: 80] الآية. وكقوله، يوم بدر: «إن تهلك هذه العصابة لن تعبد»، مع تقدم الوعد بالنصر، وكخوف موسى بعد قوله: {لآ تَخَافَآ إِنَّني مَعَكُمَآ...} [طه: 46] الآية.
ومنه: خوف الأكابر بعد تأمينهم؛ لأن ظاهر الوعد والوعيد لا يقضي على باطن المشيئة والعلم، ومثله يجري في سورة هود في قوله: {إَلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} [هُود: 107]، وفي سورة يوسف: {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} [يُوسُف: 110] بالتخفيف، وغير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة، وانظر الورتجبي. فقد انفرد بمقالة، بعد حكاية اتفاق مذاهب المسلمين جميعًا على عدم غفران الشرك، ولكن قول عيسى عليه السلام: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ...} الآية، يشير إلى ما أشار إليه ابن عباس وابن مسعود في قوله تعالى: {خَالِدينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} [هود: 107] قال: تؤمر النار أن تأكلهم وتفنيهم، ثم يجدد خلقهم، ويرجى من كرم الله ولطفه إدخالهم بعد ذلك الجنة، قال: وهذا مرجو، ليس بمعتقد أهل السنة. اهـ.
قال في الحاشية: وهو يرجع عند التحقيق إلى طرح الأسباب وعدم الوقوف معها، نظرًا إلى أن الحق تعالى لا يتقيد في وعيد ولا وعد، فمن غلبه النظر إليه، سرى إليه الرجاء في عين التخويف، كما أنه يسري الخوف في عين الرجاء، لكونه اقتطع من الوقوف مع خصوص وصف، ولما كانت تلك الحالة هي عين الأدب اللائق بالعبودية مع الله تعالى أرشد تعالى إليها بقوله: {إلا ما شاء الله}، {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} [هُود: 107]، وهو حال أهل الحقيقة، والوقوف مع خصوص الوعد أو الوعيد حال أهل الشريعة. انتهى ببعض اختصار. وقد رد الثعالبي هذه المقالة التي حكاها الورتجبي.

.تفسير الآيات (130- 134):

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)}
قلت: {ذلك أن لم يكن ربك}: خبر عن مضمر، وأن على حذف لام العلة، أي: الأمر ذلك؛ لأجل أن لم يكن ربك متصفًا بالظلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: يوم القيامة في توبيخ الكفار: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} أي: من مجموعكم، أو رسل الجن: نُذُرُهم الذين يبلغون لهم شريعة الأنس؛ إذ ليس في الجن رسل على المشهور. ورَوى الطبري من طريق الضحاك بن مزاحم إثبات ذلك، واحتج بأنا لله تعالى أخبَر أن من الجن والإنس رسلاً أرسلوا إليهم، يعني ظاهر هذه الآية. وأجاب الجمهور بأن معنى الآية: أن رسل الإنس رسل من قبل الله أليهم، ورسل الجن يبلغون كلام رسل الأنس إليهم، ولهذا قال قائلهم: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30] الآية، فالرسالة إلى الجن خاصة بنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، أي: مع الإنس.
حال كون الرسل الذين أتوكم {يقصون عليكم آياتي ويُنذرونكم لقاء يومكم هذا} يعني يوم القيامة، قالوا في الجواب: {شهدنا على أنفسنا} بالكفر والعصيان، وهو اعتراف منهم بما فعلوا.
قال تعالى: {وغرتهم الحياة الدنيا}؛ ألهتهم بزخرفها عن النظر والتفكر، {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}، وهذا ذم لهم على سُوء نظرهم وخطأ رأيهم، فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات الفاتية، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية، حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد؛ تحذيرًا للسامعين وإرشادًا لهم. قاله البيضاوي.
ثم ذكر حكمة إرسال الرسل فقال: {ذلك} الإرشال حكمته ل {أن لم يكن ربك مُهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} أي: إنما أرسلَ الرسل لئلا يكون ظالمًا لهم بإهلاكهم بسبب ظلم فعلوه، وهم غافلون عن الإنذار، بحيث لم ينذرهم أحد، أو: لم يكن مهلك القرى ملتبسًا بظلم حيث أهلكهم من غير إنذار، ففاعل الظلم، على الأول: القرى، وعلى الثاني: الله تعالى، على تقدير إهلاكهم من غير إنذار. والأول يتمشى على مذهب المعتزلة، والثاني على مذهب أهل السنة. انظر ابن جزي.
{ولكلٍّ} من الإنس والجن {درجات}؛ مراتب، {مما عملوا} من أجل أعمالهم بالخير والشر، فهم متفاوتون في النعيم والعذاب، وظاهر الآية: أن الجن يُثابون ويُعاقبون؛ لأنهم مكلفون، وهو المشهور، واختلف: هل يدخلون الجنة أم لا؟ فروى الطبري وابنُ أبي حاتم عن أبي الدرداء موقوفًا: أنهم يكونون ترابًا كسائر الحيوانات، ورُوِي عن أبي حنيفة مثله، وذهب الجمهور وهو قول الأئمة الثلاثة والأوزاعي وأبي يوسف، وغيرهم؛ أنهم يثابون على الطاعة ويدخلون الجنة. ثم اختلفوا، هل يدخلون مدخل الإنس، وهو الأكثر، أو يكونون في ربض الجنة، وهو عن مالك وطائفته، أو أنهم أصحاب الأعراف، أو التوقف عن الجواب؟ في هذا أربعة أقوال، والله تعالى أعلم بغيبه.
{وما ربك بغافل عما يعملون} فيخفى عليه عمل أو قدر ما يستحق عليه من ثواب أو عقاب.
{وربك الغني} عن العباد وعبادتهم، {ذو الرحمة} يترحم عليهم بالتكليف، تكميلاً، ويمهلهم على المعاصي حلمًا، وليس له حاجة في طاعة ولا معصية، {إن يشأ يُذهبكم} أيها العصاة، {ويستخلف من بعدكم ما يشاء} من الخلق، {كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين}؛ فأنشأكم قرنًا بعد قرن، لكنه أبقاكم رحمة بكم، {إنَّ ما توعدون} من البعث وما بعده، {لآتٍ} لا محالة، {وما أنتم بمعجزين}؛ تعجزون قدرة الله الطالب لكم بالبعث والحساب.
الإشارة: كما أن الحق تعالى لم يُعذب الكفار إلا بعد إرسال الرسل، كذلك لا يُعاقب أهل الإصرار إلا بعد بعث الأطباء؛ وهم أهل التربية النبوية، فكل من لم يصحبهم وينقد إليهم مات مصرًا على الكبائر أي: كبائر القلوب وهو لا يشعر، فيلقى الله بقلب سقيم، فيعاقبه الحق تعالى على عدم صحبتهم، ومعاتبته له: بُعدُهُ عن مشاهدته وعن مقام المقربين، فإذا رأى مقام المقربين وقربهم من الحضرة، قال: غرتنا الحياة الدنيا ورخارفها، وجاهها ورياستها، وشهد على نفسه أنه كان غافلاً.
فحِكمة وجود الأولياء في كل قرن؛ لتقوم الحجة على أهل الغفلة، فإذا وقع البعد لقوم لم يكن الحقّ ظالمًا لهم، فالدرجات على حسب المقامات، والمقامات على حسب الأعمال، وأعمال القلوب هي التي تقرب إلى حضرة علام الغيوب، بها يقع القرب، وبالخلو عنها يقع البعد. وعليها دلت الأولياء بعد الأنبياء، لأن الأنبياء جاؤوا بالشريعة الظاهرة والحقيقة الباطنة، فمن رأوه أهلاً لسر الحقيقة دلًّوه عليها، فكان من المقربين، ومن رأوه ضعيفًا عنها دلوه على الشريعة، فكان من أصحاب اليمين. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (135):

{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)}
قلت: {من تكون}: إما مفعول {تعلمون}، أو مبتدأ، وهي إما موصولة أو استفهامية، والمكانة: التمكن أو الجهة، يقال: مكان ومكانة كمقام ومقامة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} يا محمد: {يا قوم اعملوا على مكانتكم} أي: تمكنكم من هواكم وشهواتكم التي أنتم عليها، أو على ناحيتكم وجهتكم التي أنتم عليها من الكفر والهوى، والمعنى: اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والعداوة، {إني عامل} على ما أنا عليه من المصابرة والثبات على الدين الحق. والتهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد، كأن الذي يهدده يريد تعذيبه لا محالة، فيحمله بالأمر على ما يفضي به إليه، وتسجيلٌ بأن المهدد لا يأتي منه إلا الشر، كالمأمور به الذي لا يقدر أن ينقضي عنه. قاله البيضاوي.
ثم صرح بالتهديد فقال: {فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار} أي: أيُّنا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله لها هذه الدار، أي: وهي الدار الآخرة، أو: فسوف تعرفون الذي تكون له عاقبة سكنى الدار الآخرة والنعيم المقيم، أو: من تكون له عاقبة هذه الدار بالنصر والظهور على الأديان أنا أو أنتم، وفيه إنصاف في المقال حال الإنذار، وحسن الأدب، وتنبيهٌ على وثوق المنذِر لأنه محق. قال تعالى: {إنه}، أي: الأمر والشأن، {لا يُفلح الظالمون}، والظلم أعلم من الكفر، ولذلك وضُع موضعه؛ لعمومه.
الإشارة: إذا انكب الناس على الدنيا، وأخذتهم الغفلة، وغلب عليهم الهوى، ثم وقع الوعظ والتذكير من أهل الإنذار، فقابَلوهم بالإبعاد والإنكار، يقول لهم المذكور والواعظ: {يا قوم اعلموا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار...} الآية.